التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الفسطاط القديمة.. تاريخ ينبض بين الأطلال


صورة لأطلال الفسطاط خاصة بموقع دنيتنا.

بقلم: شريف عبدالمنعم
أمسك السائح بين يديه دليل المعالم المصرية، ووقف أمام مسجد عمرو بن العاص يسأل المارة عن منطقة تسمى "Old Fustat" (الفسطاط القديمة).. وحملت الإجابات في معظمها طابعاً طريفاً، حيث دله البعض إلى حديقة الفسطاط، بينما دله آخرون لاتجاه مدينة الفسطاط الجديدة، والاثنتين سواء الحديقة أو المدينة الجديدة يبعدان عن مكان السائح ما بين كيلو إلى اثنين كيلو متر فقط، أما المدينة القديمة فهي على بعد أمتار قليلة خلف المسجد الذي يقف أمامه السائح.
يتكرر المشهد السابق بشكل شبه يومي، حيث يلاقي من يريد التجول بين أطلال الفسطاط القديمة عناء العثور على بقايا تلك المدينة التاريخية التي لا يوجد هناك طريق ممهد لبدايتها سوى طريق مركز الخزف بمصر القديمة.
ما أن تطأ قدمك هذا الطريق تلاحظ اسمرار التربة التي تسير عليها، ووجود مياه جوفية شكلت حول تلك المدينة القديمة بركاً ومستنقعات نما فيها بوص الأدغال، مما يخلق بداخلك شعورا بالرهبة ممزوجا بشيء من الخوف، ولا تعرف لماذا يعتريك هذا الشعور؟.. هل هو الخوف من منطقة تكاد تكون مهجورة نهاراً حيث لا يدخلها سوى موظفو الآثار والخبراء الأجانب وبعض السائحين؟.. أم هي الرهبة من ساحة غير مأهولة بالسكان لكنها قد تكون ليلاً مرتعاً للجان وأرواح قتلى حروب كثيرة دارت رحاها على تلك الأرض التي يدب عمرها في أعماق ثلاثة آلاف ومائتي عام مضت قبل الميلاد، حين وقعت عليها أحداث المعركة الشهيرة التي قام فيها الملك مينا بتوحيد قطري مصر( الدلتا في الشمال والصعيد في الجنوب)، وأطلق عليها الفراعنة آنذاك اسم «غري عاحا» أي ساحة الحرب؟!
حين زرت أطلال الفسطاط لأول مرة، لم أشأ أن أظل أسيراً لتلك المخاوف، وسرت أكمل طريقي وأنا أتخيل لكل بقعة فيها موضعاً للخيام التي نصبها جيش المسلمين بقيادة الفاتح عمرو بن العاص وهو يحاصر الرومان البيزنطيين في حصن بابليون، قبل أن يتمكن من فتح مصر عام 21 هجرية، ثم كان تفكيره الصائب باختيار مدينة الفسطاط لتكون أول عاصمة إسلامية، ليس في مصر فحسب وإنما في إفريقيا كلها.
وكما فعل الرسول في المدينة المنورة، بدأ عمرو بن العاص بإنشاء المسجد الجامع الذى سمي باسمه، ثم شيد منزله بالقرب منه، وإلى جواره بدأ الناس يبنون بيوتهم في العاصمة الوليدة، وانصهر المصريون مع القبائل العربية التي استقرت بالفسطاط لتصبح المدينة مركزاً لانطلاق الفتوحات الإسلامية إلى قارات العالم القديم، وظلت الفسطاط عاصمة لمصر حتى استولى عليها العباسيون فأسسوا مدينة العسكر سنة 132 هـ، ومن بعدهم أسّس أحمد بن طولون مدينة القطائع سنة 256 هـ.
وفى العصر الفاطمي أنشأ المعز لدين الله الفاطمي، مدينة القاهرة سنة 358 هـ وضم إليها حينذاك مدن الفسطاط والقطائع والعسكر، وفى نهاية حكم الفاطميين بعهد الخليفة العاضد، عام 564 هجرية الموافق 1168م، شهدت الفسطاط أحلك لحظات تاريخها، حينما بلغها الصليبيون بمراكبهم عبر نهر النيل فأسروا سكانها ونهبوا ممتلكاتها، ونزح الناجون إلى القاهرة الفاطمية خائفين هلعين، وهنا أدرك الخليفة العاضد صعوبة موقفه، فأمر وزيره شاور بإحراق مدينة الفسطاط كي لا يتمتع الصليبيون بها.
ظلت النار مشتعلة في الفسطاط لأكثر من 45 يوماً، وأصبحت بعد الحريق مدينة أشباح خاوية لعدة قرون، ويوماً بعد يوم نسى الناس ما كان لهذه المدينة من تاريخ حافل، وتحولت الفسطاط من عاصمة إسلامية عظيمة إلى مكان يلقى فيها العامة مخلفاتهم، ثم شاءت إرادة الله أن تدب الحياة في الفسطاط من جديد مع نهاية القرن التاسع عشر، حين بدأ الناس يأخذون الأتربة منها لردم الجزر أو لاستخدامها كسباخ في التربة من أجل الزراعة، وفى وسط ذلك كانوا يجدون بعض التحف الخزفية، مما دفع الحكومة لتعيين إشراف ومراقبة من لجنة حفظ الآثار العربية التي تأسست عام 1881، ومن وقتها بدأت الحفائر على يد الأثري الرائد على بهجت، وكان معه المهندس المعماري الفرنسي ألبير جبرائيل، واستمرت تلك الحفائر من عام 1912 حتى 1920، واكتشفوا خلالها ما تبقى من أطلال الفسطاط وهى عبارة عن أساسات منازل يعود تاريخها إلى ما بين القرنين الرابع والخامس الهجريين.
رغم مرور كل هذه السنين، لا تزال هناك أساسات منازل تحتفظ بمعالمها الأصلية، وهى تتكون من صحن حوله ملاحق، ويتوسطه فسقية يأتي لها الماء من مجرى رخامي متصل بفوارة (نافورة مياه)، مرتبطة بمواسير فخارية معشقة داخل حوائط المنزل، ثم تنتهى هذه المواسير إلى الصهاريج التي يأتي لها الماء من القناطر، ووصل ارتفاع بعض المنازل إلى أربعة أدوار، وكان سقفها يصنع من الخشب.
وأثناء توالي بعثات الحفائر الأجنبية ومن خلال عمل الأثريين المصريين بالمنطقة، عُثر على آلاف القطع الخزفية التي تعود إلى بداية العصر الإسلامي في مصر وما بعده، وهذه التحف يوجد بعضها الآن في متحف الفن الإسلامي ومركز الخزف بمصر، في حين ذهب البعض الآخر إلى المتاحف والمعارض العالمية، ولذا فلن يكون مستغرباً أن تجد تلك التحف الأثرية الإسلامية تشع نوراً وتجذب أفئدة الغربيين في متحف بيناكي بأثينا، والفرير جاليري بواشنطن، ومترو بوليتان بنيويورك، وفيكتوريا وألبرت بلندن، ومعهد العالم العربي في باريس.
المدهش حقاً أن الأثريين المصريين والأجانب يرجحون أنه من الممكن اكتشاف المزيد من الآثار الإسلامية في المناطق المجاورة لأطلال الفسطاط، ولكن بقدر ما تسحرك عملية التجوال بين أطلال الفسطاط، بقدر ما تشعر بالحزن الشديد لما تراه من الزحف الخرساني تجاهها، إضافة إلى أخطار المياه الجوفية في تلك المنطقة، وقد حاول بعض الأثريين المصريين في المنطقة ترميم أساسات منازل الفسطاط الأثرية حسب الإمكانيات المتاحة، ولكن هذه الجهود الفردية تحتاج إلى إدماجها في خطة شاملة ومدروسة برعاية رسمية للحفاظ على أطلال هذه المدينة الأثرية من الاندثار.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صراع الخوارزميات الذكية !

بقلم: شريف عبدالمنعم *صحفي ومُدرب متخصص في الإعلام الرقمي. بينما لا تزال وسائل الإعلام التقليدية (صحافة ورقية وقنوات تلفزيونية) تلاحق أنفاسها لمواكبة سيطرة السوشيال ميديا على اهتمامات الجمهور، انتقل السباق فجأة ليصبح صراعاً بين خوارزميات تطبيقيات الذكاء الاصطناعي وعمالقة السوشيال ميديا، لتصبح وسائل الإعلام التقليدية في تحدٍ جديد أشد ضراوة وأكثر شراسة بكثير عن السابق. لم يعد الأمر متعلقاً بمواكبة المحتوى الرائج "الترند" لجذب أكبر شريحة من الجمهور، وإنما بات يتعلق بماهية وسائل الإعلام التي سيلجأ إليها الجمهور مستقبلاً للحصول على المعلومات الإخبارية والأرشيفية، وهذا هو أدنى ما سيجنيه الجمهور من تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي باتت تنتج الصور ورسومات الجرافيك وتفحص الأكواد البرمجية وتكتبها بسرعة البرق، كما هو الحال في "شات جي بي تي – chatgpt" (انظر إلى الصورة أسفل المقال لم يستغرق توليدها سوى 5 ثوانٍ فقط !". ويستطيع "chatgpt" حالياً كتابة وتعديل الأكواد بعدة لغات برمجة مثل "Python وJavaScript وHTML وCSS وSQL" وغيرها، والعثور على الأخطاء في الأكو...

لماذا انهارت مشاهدات المواقع الإخبارية؟.. أبرز الأسباب وأهم الحلول

بقلم: شريف عبدالمنعم *صحفي ومُدرب متخصص في الإعلام الرقمي. كان عامي 2020 و2021 بمثابة قمة النجاح للكثير من المواقع الإخبارية حيث تخطت معدلات التصفح المليون مشاهدة خلال اليوم الواحد في الكثير من المواقع، لكن ذلك النجاح لم يدم طويلاً وتحولت الأحلام الوردية إلى كوابيس أرجعها البعض فقط إلى تحديثات محرك البحث "جوجل"، الذي يعد المصدر الأساسي للزيارات الطبيعية. ورغم أن تحديثات "جوجل" بالفعل تعد سبباً رئيسياً في الانهيارات التي طالت الكثير من المواقع الإخبارية، لكن أحداً لم يرصد حتى اللحظة كيف تأثرت المواقع الإخبارية سلباً بتلك التحديثات، وكيف أن تلك المواقع ذاتها كانت متوافقة في الماضي مع "جوجل" والآن باتت في عداوة واضحة مع خوارزمياته، ولهذا حاولت بقدر المستطاع رصد أهم تلك الأسباب بشكل متسلسل، مع تقديم بعض الحلول المقترحة للخروج من الأزمة، ويبقى نجاح العلاج متوقفاً على مشاركة الصحفيين أنفسهم في علاج مواطن الخلل تقنياً كان أم تحريرياً. أسباب انهيار مشاهدات المواقع الإخبارية 1. طفرة المشاهدات المفاجئة بداية أود استرجاع معلومة أن عامي 2020 و2021 كانا ذروة المشاهدات ...

في باب زويلة.. احترس من الأساطير والرجل الطائر!

بقلم: شريف عبد المنعم الكثير منا يذهب إلى شارع الأزهر ولا يعرف منه غير تجار القماش والعطارة وخان الخليلي والحسين، والقليل من مرتادي المنطقة هم فقط من يعلمون أنها تحتوي على ما يزيد عن مائتي أثر إسلامي متنوعة بين المساجد والأسبلة والكتاتيب والمجموعات الأثرية، وأهمها تلك التي يحتضنها شارع المعز لدين الله الفاطمي، أشهر وأقدم شوارع القاهرة التاريخية التي كان يحوطها قديما ثمانية أبواب، زويلة والفرج في الجنوب، الفتوح والنصر في الشمال، القراطين والبرقية في الشرق، سعادة والقنطرة في الغرب. كان لهذه الأبواب العديد من الوظائف أهمها حماية المدينة من الأعداء واستخدامها للإعلان عن قدوم المواكب وتنظيم حركة دخول وخروج التجار والبضائع، ونتيجة مرور الزمن لم يتبق من هذه الأبواب سوى ثلاثة فقط: باب زويلة وباب الفتوح وباب النصر. في بداية شارع المعز لدين الله من الجهة الجنوبية نشاهد واحداً من ضمن الأبواب الثلاثة الباقية للقاهرة التاريخية، وهو باب زويلة الذي يعد واحداً من أضخم البوابات في العالم ويروي العديد من المؤرخين أنهم لم يرو باباً أكثر منه هيبة في مختلف البلدان التي زاروها ! سُمي باب زويلة بهذا الاسم نس...